خبرة الاستماع إلى القرآن الکريم: دراسة ظاهراتية (فينومنولوجية) کيفية

نوع المستند : بحوث علمیة متخصصة فی مجال الاعلام والاتصال.

المؤلف

الأستاذ المساعد بکلية الإعلام، جامعة القاهرة

المستخلص

تعنى هذه الدراسة بالخبرات الشخصية أو الجماعية المستجيبة للنص القرآني المسموع في شکل طقوس يومية واستجابات موقفية تنتظم في حياة المسلم العادي، وهي کدراسة إعلامية بينية لها تقاطعاتها مع دراسات التلقي الکيفية ودراسات الثقافة الشعبية، وجزء منها يرتبط بنمط الإنتاج والاستهلاک الرأسمالي المقبول في مجتمع مسلم. 
وترتبط خبرة الاستماع إلى القرآن الکريم إثنوجرافيا بمفاهيم البرکة والتطهر وطرد الشياطين والأرواح الشريرة والوقاية من الحسد وجلب الرزق، وإسباغ الهدوء والسکينة على المکان الذي يتلى فيه. 
وکذا ترتبط خبرة الاستماع إلى القرآن الکريم نفسيا بالتطهير بالمفهوم الأرسطي والذي يشمل الاندماج مع النص القرآني لدرجة البکاء وتخليص الجسم من التوتر، بل بالشفاء من الأمراض النفسية والجسدية وتقليل الشعور بالألم إکلينيکيا، وترتبط خبرة الاستماع للقرآن أيضا کنص شعبي ومقدس في آن معا بمفهوم الطرب المستعار من الاستماع للموسيقى والأغاني والذي يعني: أن يکون المؤدي مندمج لحنيا وموسيقيا والتي ترفع المؤدي إلى ذروة من النشوة، وهو ما يتحقق أيضا لدي المستمعين ويتم التعبير عنه بالسلطنة أو الطرب، وهذا لا يحدث إلا في لحظات الاستماع المرکز.
بل ذهب البعض للقول بأن هناک تأثيرا لتلاوة القرآن وتجويده على نظام الموسيقى العربية جماليا، حيث ما زال الغناء العربي معتمدا على الميلودي أو اللحن الرئيس، وهو ما يؤديه المطرب الفرد أکثر من اعتماده على تعددية الأصوات أو البوليفونية.
والقرآن بحد معناه هو کلام الله المقدس الذي يقرأ، وتسميته بالذکر أو Reminder تعطينا فکرة عن إعادة قراءته وتلاوته ووظائف ذلک الدينية والجمالية والاجتماعية.
وتلاوة القرآن (ومن ثم الاستماع إليه وهو يتلى) ليست شعيرة تعبدية فقط وليست عملا فرديا ولا شخصيا فقط، ولکنها ممارسة اجتماعية تم رصدها عبر قرون الإسلام، وخير الناس على حد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من تعلم القرآن وعلمه، وهي العملية التي يظهر فيها القرآن المقروء بوضوح ومن هنا جاءت ممارسة الاستماع إلى القرآن الکريم.
ويؤشر الاستماع على الدور الوظيفي الجمعي للقرآن في حياة المسلمين حول العالم، وکذا على مرکزية الثقافة الشفهية في المجتمعات العربية الإسلامية، فالفعل اقرأ في هذه الثقافة مرتبط بالفعل اسمع وهو أمر - في الثقافة العربية الإسلامية - يتعدى القرآن الکريم إلى الشعر والقصص الشعبية وسير الأبطال. 
وتذهب دانيللا تالمون هيللر Talmon-Heller إلى أن "قراءة النص الديني مرنماً على جموع من المؤمنين موجودة في الديانات السماوية الأخرى کاليهودية وبدرجة أقل في المسيحية، ولکن الاستماع إلى القرآن مرتلا ومجودا تکاد تکون خصيصة مقتصرة على القرآن الکريم، فالنواحي الإبداعية في تلاوته وتجويده لا شبيه لها في النصوص السماوية الأخرى"، وهو الأمر الذي أکدته أيضا الباحثة الفرنسية سولانج کوربان Corbin بقولها أن "تجويد القرآن هو أعلى شکل من التفنّن الموسيقي في التلاوة المرنمة بين سائر التقاليد الدينية السماوية".
والاستماع إلى القرآن له مدى زمني أو Time Span للترکيز يختلف من إنسان لأخر، وطبيعي أن يصاحب الاستماع إلى القرآن الکريم تيارا للوعي يحمل منولوجا داخليا يختلف باختلاف الجنس والسن والمستوى الاجتماعي الاقتصادي والتعليمي والثقافي والحالة النفسية والجسدية للمستمع، ويختلف لدى المستمع الواحد في مراحل مختلفة من عمره، ويسمى مفهوم تيار الوعي في بعض الدراسات ب(مجرى الشعور).  
ونستطيع القول أن الاستماع إلى القرآن له طقوس وهي إحدى المفاهيم المهمة في الدراسات الإثنوجرافية المحدثة، ثم سياقات للتلقي، ثم تشتت للانتباه يتم خلاله حوار داخلي مع النص القرآني مصحوب بتيار وعي ثم عودة الانتباه مرة أخرى.
ولا تخلو خبرة الاستماع إلى حوار بين المستمع والمرتل للقرآن تحمل خيالات إعجازية، مثل أن يتخيل المستمع أن القارئ يعيش معه، يحتضنه ويحنو عليه، أو يحاوره وينصح له خاصة لو کان المستمع يتيما أو يفتقد من يقوم بهذا الدور في حياته، ولأن معظم مرتلي القرآن من الرجال فيکون دور الأب أو الأخ أو الزوج أو الابن هو الدور المتخيل، إلا في ثقافات أخرى في العالم الإسلامي الذي ترتل فيه المرأة القرآن أکثر من الرجل مثل إندونيسيا.
والغريب - على ضوء مراجعة بحوث الإعلام العربية - ألا يتم تطبيق المداخل الوظيفية کمدخل الاستخدامات والإشباعات على الاستماع إلى القرآن الکريم رغم مرکزية النص القرآني في الثقافة العربية الإسلامية من جهة، والشيوع - الذي يبلغ أحيانا حد الابتذال - لاستخدام المداخل الأمريکية البنائية الوظيفية في الدوائر الأکاديمية العربية من جهة أخرى.
وخلاصة القول أن هذه الدراسة ترصد خبرة الاستماع إلى القرآن الکريم کما يعبر عنها مستمعيه، ولذا کان الاقتراب الظاهراتي من المنظور السوسيولوجي مدخلا نظريا مناسبا للدراسة التي تطمح إلى الوصف التفصيلي العميق لإدراک الناس وتصوراتهم حول خبرات مختلفة متعلقة بالاستماع للقرآن الکريم، النص المحوري الرئيس في الثقافة العربية الإسلامية.
وفي بحوث الإعلام المحدثة، يَجّبُ المنهج المبتکر والنظرية الجديدة التخصص الدقيق نظرا للاندماج الرقمي الحادث في الإعلام وتجاور النصوص المکتوبة والمسموعة والمرئية في صفحة إنترنت واحدة، وتعتبر هذه الدراسة امتدادا لتوجهات الباحث النظرية والمعرفية التي تخصص فيها منذ حصوله على درجة الدکتوراه، المدارس الکيفية: النقدية والعلاماتية (السيميولوجية) والثقافية في الإعلام.
وتفيد الدراسة من أحدث دراسات التحليل الثقافي لا سيما في مفهوم ارتباط الممارسات الدينية بالحواس، فنحن نُقبّل القرآن ونحتضنه ونرفعه إلى جباهنا، والحق أننا نُقبّل ونحتضن المعاني التي تحمينا وتنقذنا وتربت علينا، تلک المعاني التي تشکلها خبراتنا بالقرآن.  

الكلمات الرئيسية